حتى الساعة تجهل معظم القوى السياسية اللبنانية ماهية التدقيق المالي والتدقيق الجنائي وكيف تعمل الأنظمة الرقابية الحقيقية. هذا الأمر غير المستبعد يأتي نتيجة غياب الرقابة الحقيقية عن المؤسسات في لبنان منذ زمن. هنا فُسّر الكباش الذي وقع حيال اقرار التدقيق المالي، والذي يصرّ البعض حتى الساعة على أنّه لم يكن ضروريًا
في هذا الإطار يراشق البعض باتهامات عبثية محمّلًا مسؤولية التدقيق لغير أصحاب الإختصاص الأمر الذي يساهم أكثر في تضليل الحقائق
النوايا واضحة، البعض يستهدف التدقيق لمحاولة تصويبه وتوجيهه نحو فريق معيّن، والبعض الآخر يسعى لنسفه كليًا من الوجود، وعليه تأتي حملات التضليل من منطلقات قانونية في حين وسياسية في أحيانٍ أخرى
ببساطة، وقبل تفنيد المواد، فإن كل من يسعى لعدم اجراء تدقيق عبر شركة اجنبية يعمل على الترويج لأفكار مغلوطة تقع ضمن اطار التضليل
فقد نصّ قانون النقد والتسليف الصادر في 1 آب 1963، في القسم الرابع منه والمتعلق بمراقبة المصرف، في المادة 41 على أنه تُنشأ في وزراة المالية “مفوضية الحكومة لدى المصرف المركزي وذلك بعد إلغاء مصلحة النقد في الوزارة عينها. ويدير هذه المصلحة موظف برتبة مدير عام يحمل لقب مفوض الحكومة لدى المصرف المركزي ويكلّف بحسب المادة 42، بـ”السهر على تطبيق هذا القانون”، و”مراقبة محاسبة المصرف ويساعده في هذا الجزء من مهمته موظف من مصلحته ينتمي الى الفئة الثالثة على الاقل من ملاك وزارة المالية
ضمن مهام المفوض، والمدرجة في بنود انشاء المفوضية، مراقبة سير العمل في المصرف بما لا يخالف القانون اللبناني، على أن يكون مرجع المفوّض الحكومة اللبنانية بشخص وزير المال فيها دون السماح له بخرق السرية المصرفية. فالمادة 44 تقول “للمفوّض ولمساعده، المشار اليه في الفقرة (ب) من المادة 42 حقّ الإطلاع على جميع سجلاّت المصرف المركزي ومستنداته الحسابيّة، باستثناء حسابات وملفّات الغير الّذين تحميهم سريّة المصارف المنشأة بقانون 3 أيلول سنة 1956، وهما يدقّقان في صناديق المصرف المركزي وموجوداته وليس لهما أن يتدخّلا بأيّة صورة، في تسيير أعمال المصرف المركزي”

بناءً عليه، فإن دور المفوضية يكمن في مراقبة الحسابات التابعة للمصرف وليس الحسابات المفتوحة لدى المصرف المركزي. فتلك الاخيرة مشمولة بسرية المصارف، لذلك تم اقرار القانون 200 الذي قضي بتعليق العمل بأحكام قانون سرية المصارف الصادر بتاريخ 3/9/1956 لسنة واحدة. الذي يسمح رفع السرية عن حسابات القطاع العام لمدة سنة. في هذا الإطار لا بدّ من الوقف على حقيقة أن المجلس النيابي مجتمعًا أعطى الشركة الأجنبية الموقّع معها عقد التدقيق حق رفع سرية الحسابات دون غيرها، الأمر الذي ينسف بدوره محاولات تسييس الملف

من جهة اخرى، الواقع يقول ان مراقبة حسابات الدولة من ادارات، وزارات، هيئات، بلديات الخ… هي من مسؤولية ديوان المحاسبة الذي يجري رقابة مسبقة او ملحقة ببعض الاحيان على هذه الحسابات. فمن مسؤولية ديوان المحاسبة الموافقة على النفقات العامة والتأكد من متابقتها مع اعتمادات الموازنة. والديوان يوافق ايضاً على قطع الحساب التابع لكل ادارة عامة. من هنا، السؤال الذي يطرح نفسه: اين هو دور ديوان المحاسبة ومن تعاقب على ادارته من مراقبة نفقات الدولة، واطلاق الانذارات، وتصويب السياسات الرقابية ووضع اللبنانيين أمام الحقائق؟

‏‎كل ما يحصل اليوم من هجوم على مفوّض الحكومة لدى المصرف المركزي واستبعاد الهيئات الرقابية الاخرى هو هجوم مشبوه ومقصود، يبقى ضمن خانة المزايدات السياسية، ولا يهدف سوى لذر للرماد بعيون اللبنانيين الذين ينتظرون بدء دوران عجلة المحاسبة، التي لا يمكن لها أن تبدأ سوى مع انطلاق رحلة التدقيق المالي والجنائي الذي سيكون بحد ذاته الثورة الحقيقية على الفساد والفاسدين

فرغم الصراع القائم وكل الآراء المتداولة يبقى التدقيق الجنائي هو الحل الأمثل للوقوف على حقيقة من سرق المال العام ومن ألبس اللبنانيين كل هذه الديون. فالتدقيق ضرورة ملحّة وحاجة وطنية يجب أن يبقى بعيدًا كل البعد عن التجاذب السياسي والمصلحي