ثلاثون عاماً من الفساد والسرقة أوصلونا إلى أكبر انهيار مصرفيّ في تاريخ لبنان الحديث ترافق معه إنهيار الليرة أمام الدولار الأميركي بنسبة وصلت إلى ٨٠٪ ، خسائر كبيرة في حسابات مصرف لبنان، تتجاوز تقديراتها ٦٣ مليار دولار أميركي دفعت المصارف الى فرض القيود على المودعين بينما السرقات بدأت من داخل حسابات الدولة وفي مصرف لبنان تحديداً. يتحكّم بالبلد رجالات وَصَمُوا تاريخهم بالفساد وأوصلونا إلى هذه الحال التي هي أكثر من مزرية، وهم نفسُهم اليومَ يقفون في وجه عمليّة محاربة الفساد والتدقيق الجنائي الذي يكشف الإختلاسات في حسابات مصرف لبنان ومنها يتمدّد إلى سائر المؤسسات وهذا ما يخيف معظم السياسيّين الحاليّين والسابقين الذين يحاربون المشروع لتورّطهم بطريقة أو بأُخرى إمّا بفسادٍ مباشر أو بتقصيرٍ ما أو بسيطرةِ المحسوبيات عند تولّيهم المناصب.
إنّه مشروع العماد عون منذ العام ٢٠٠٩ حين التمس هول السرقات في الدولة اللبنانية انطلاقًا من دوره النيابي.
بعد إصرار الرئيس عون على المضيّ قدمًا في محاربة الفساد وبضغط منه، قرّرت الحكومة اللبنانية في نيسان ٢٠٢٠ التعاقد مع شركة Kroll العالمية، ولكن في شهر حزيران أي بعد أكثر من شهرين من المماطلة وبعد تذرّعه بارتباطها بالموساد الإسرائيلي، قرّر وزير الماليّة غازي وزني عدم التعاقد مع الشركة وعدم قبوله تسليم المعلومات لشركة على علاقة مع العدو.
وفي آواخر آب أي بعد أكثر من شهرين من المماطلة أيضاً وبعد أخذٍ وردٍّ وسجالٍ داخل الحكومة تمّ التوافق على عقدٍ للتدقيق الجنائي مع الشركة الأميركية “ألفاريز آند مارسال”، بالإضافة إلى عقدين آخرين مع شركتي “كي بي إم جي” (KPMG) و “أوليفر وايمان” (Oliver Wyman) للتدقيق الماليّ والحسابيّ إلّا أن وزير المالية نفسه، وهو الذي كان قد وقّع عن الدولة اللبنانية عقد التدقيق الجنائي مع شركة ألفاريز، لم يلتزم بملاحظات هيئة التشريع والإستشارات وعدّل في البنود ممّا أفرغَ العقدَ الكثيرَ من مضمونه وأهمّها أنه حرّر بذلك مصرف لبنان من وُجوب تزويد المعلومات الإضافية الى الشركة، كما وجعله خاضعاَ للقوانين اللبنانية والمقصود هنا السرية المصرفية وقانون النقد والتسليف.
حينها أصبحت وزارة المال هي المخوّلة تسليم المستندات التي تطلبها الشركة من خلال الوزارة. لذلك منذ أن بدأت الشركة عملها لجمع المعلومات اصطدمت بعراقيل عدّة كان أوّلها عدم الحصول سوى على القليل من المعلومات والمستندات التي طلبتها وهي غير كافية لتبدأ بالتدقيق الجنائي وهنا طبعاً تسلّح رياض سلامة بالقانون الذي بحسب قوله لا يسمح له بتسليم المستندات كافّة فسلّم بعضاً منها وامتنع عن تسليم كل ما اعتبره خاضع لقانوني “السرية المصرفية” و”النقد والتسليف” في لبنان. هذا الأمر أثار إمتعاضاً لدى رئيس الجمهورية لأنه جاء خلافاً لما كان يعمل عليه، وقد بدا واضحاً أنّ تعديل بنود العقد وعدم الإلتزام بملاحظات هيئة التشريع والإستشارات، كانت تخفي نيّة مبيّتة عند وزير المالية بعرقلة التدقيق بإيعاز واضح من مرجعيته السياسية.
هذا واعتبر مراقبون للملف أن العقد في الأصل كان مفخخاً من الجهة اللبنانية، إذ ينص بوضوح على أن عمل الشركة يخضع للقوانين المرعية في لبنان وهنا كان يمكن دراسة العقد أكثر وإيجاد حلول لهذه المشكلة، أعلنت وزيرة العدل ماري كلود نجم، بعد استشارة هيئة التشريع والإستشارات، أن السرية المصرفية التي يتذرّع بها حاكم مصرف لبنان لعدم تسليم المستندات لا تسري على حسابات الدولة وحسابات مصرف لبنان كما أن المستندات المطلوبة ستكون مرمّزة ومشفّرة بحيث لا يكون هناك مخالفة للسرية المصرفية. فجاءها الرد طبعاً من الحاكم بأن الدولة اللبنانية هي الوحيدة المخوّلة طلب كشف الحسابات كي لا يترتّب على المصرف عواقب مخالفة قانون السرية المصرفية.
أمام هذا الجدل اتخذ الرئيس عون القرار وأوعز الى رئيس لجنة المال النيابية النائب ابراهيم كنعان تقديم قانون لتعديل السرية المصرفية، وأكد على «ضرورة التزام الحكومة إجراء التدقيق الجنائي المالي في حسابات مصرف لبنان»، مشيراً إلى أهمية هذه الخطوة في مجال الإصلاحات الضرورية لمعالجة الأوضاع المالية والاقتصادية في البلاد. طبعاً حضّر النائب كنعان مشروع قانون تعديل إحدى المواد القانونية في قانون النقد والتسليف لسحب كل الذرائع التي يتسلّح بها مصرف لبنان وحاكمه لعدم تسليم كامل المستندات الى ألفاريزز اند مارسيل، ورغم الحملة التي تعرّض لها وبعيداً عن الشعبوية، نفّذ كنعان طلب رئيس الجمهورية ودافع عنه أمام الرأي العام.
لكن الشركة قرّرت فجأةً وبطريقة تكتيكية إنهاء العقد وعدم الإنتظار حتى انتهاء المهلة المعطاة لها، بعد أن عانت ما عانته من التعقيدات اللبنانية. فقد قوبلت كل الطلبات بعناد من حاكم مصرف لبنان المدعوم من أطراف سياسية معروفة وتاريخها مغمّسٌ بالفساد. فكلّما حاول الرئيس وفريقه السياسي التقدّم في قضيّة ما في محاربة الفساد اصطدم بعدم التمكّن من الدخول إلى “مغارة مصرف لبنان”، تماماً كما حصل في قضيّة الفيول المغشوش ومعاناة القاضية عون في الحصول على الحسابات من مصرف لبنان ما لم يتمّ حتى اليوم ورغم جميع المراسلات.
لقد سقط التدقيق الجنائي نعم، لكن الرئيس عون قرّر فتح “حرب التدقيق” في وجه كل معرقل مستخدماً صلاحياته كرئيس للجمهورية فوجّه رسالة الى مجلس النواب، حمّل بها وبطريقة غير مباشرة المسؤولية لرئيس المجلس، ووضعه تحت مسؤولياته وطلب مناقشتها في المجلس، رسالة تضمّنت النقاط التالية:
١- طلب الرئيس من المجلس النيابي وجوب التعاون مع السلطة الإجرائية لتمكين الدولة من إجراء التدقيق المحاسبي الجنائي في حسابات مصرف لبنان، والتدقيق ينسحب الى سائر مرافق الدولة العامة تحقيقاً، للإصلاح المنشود وبرامج المساعدات التي يحتاجها لبنان راهناً.
٢- اعتبر الرئيس أن التدقيق المحاسبي الجنائي ضروري كي لا يُصبح لبنان في عداد الدول الفاشلة في نظر المجتمع الدولي، واستمرار التمنّع عن تسليم المستندات الى شركة التدقيق أدّى إلى عدم تمكنها من المباشرة بمهمتها فأنهت العقد.
٣- اعتبر الرئيس في رسالته أنّ ما حصل يعتبر إنتكاسة خطيرة لمنطق الدولة ومصالح الشعب اللبناني، والتدقيق المحاسبي الجنائي بات من مستلزمات تفاوض الدولة مع صندوق النقد الدولي، وفقدان الثقة بالدولة وسلطاتها ومؤسساتها لن يقتصر على الداخل بل يُصبح لازمة لدى المجتمع الدولي.
٤- أخيراً شدّد الرئيس على أن الإصلاح كلٌّ لا يتجزأ ومرادف للإستقرار السياسي والأمني، وبأنّه لن يرضى الرضوخ لأي ضغوط للتخلّي عنه أو التخفيف من مستلزماته.
اليوم وبعد سنوات بتنا نعلم كيف ومن أية جهات سياسية أتى الضغط على الرئيس عون لاستبقاء رياض سلامة في موقعه واليوم أكثر من أيّ يوم أصبحنا ندرك أن الذي أسرع في التوقيع على اتفاق الطائف كان هدفه الحد من صلاحيات رئيس الجمهورية الذي كان قبل ذلك التاريخ وبشخطة قلمٍ قادر على تغيير المنظومة بأكملها. اليوم وبعد سنين نرى ذلك السياسي المحنّك الذي يلعب على وَتَر الطائفية بإدراج قانون إنتخابيّ جديد في وقت تفقد الناس قدرتها الشرائية، وكأن بذلك تهديداً لمن يحاولون محاربة الفساد. اليوم وأكثر من أيّ يوم تكبر الهوّة بين الرئيس عون ورئيس المجلس القابع منذ ٣٠ عاماً على كرسيه. بالفعل وبعد كل ما نراه ونسمعه لا يسعنا سوى القول أنّ “حاميها هو نفسه حراميها” ومنذ ٣٠ عاماً.