عجز، نقمة، قلّة ثقة، ثورة… ونتساءل ما سببهم؟ لا شك أن الأسباب كثيرة لكن لا نختلف أن أهمها هي الضائقة الاقتصادية والمالية والوضع المعيشي المتردّي، فلنتذكر معاً الطريق التاريخي الذي أوصلنا الى ما نحن عليه اليوم.
إن المرحلة الواقعة بين العام 1992 وحتى العام 2010 سيطرت عليها الـ”Mafia State” المؤلّفة من ٦ أحذاب يُكَوِّنون المنظومة السياسية الفاسدة المتعاقبة على الحكم. فمن الـ 1992 حتى الـ 2005 أنشأت هذه الطبقة من السياسيين تركيبات إقتصادية خاصّة جعلتها تصبّ في مصالح رجالها فطغى منطق الدويلة على منطق الدولة وحكموا الشعب بالزبائنيّة السياسة … اعتمدت الحكومات المتعاقبة منذ العام 1992 على السياسات المالية دون أن تعتمد على خطة اقتصادية واضحة الرؤيا فكانت السياسات المعتمدة تؤدي الى تراكم الديون على البلاد وارتفاع كلفة خدمة فائدة الدين. فبعد أن كان الدين العام يوازي الـ 1,8 مليار دولار عام 1991 ارتفع ليصل إلى أكثر من 91,6 مليار دولار في يومنا هذا، أي بزيادة الدين حوالي 89 ملياردولار في 29 سنة.

تمحور الهدر طيلة هذه السنين على خدمة الدين العام التي وصلت الى 45% في التسعينات (وهي أعلى نسبة فائدة دين في العالم) إستفاد منها أصحاب النفوذ الكبيرة من سياسيين ورؤساء الأموال، بالإضافة إلى الإنفاق على إعادة الإعمار وبناء المشاريع وعدم تطبيق الخطط المطروحة وكل ذلك من دون دعم للإنتاج بالأخص لسدّ عجز الكهرباء. هذا العجز الذي كان سببه قرار اتخذته في 1994 حكومة الرئيس الشهيد رفيق الحريري يقوم على تثبيت سعر كيلوات الكهرباء على أساس سعر برميل البترول ٢٢ دولار وأصبحت الدولة تبيع الكهرباء بأقل من كلفة إنتاجها لأن سعر برميل النفط تعدى الـ 70 دولار. فراحت وزارة المالية تحوّل الأموال لشركة كهرباء لبنان على مر السنين من خزينة الدولة لتغطي الخسائر الناجمة عن قرار تثبيت سعر الكيلوات الذي اتُّخذ وقتها.

إن الوضع في لبنان يختلف عن غيره من الدول المتقدّمة. ففي بعض هذه الدول عندما تعطي الدولة فائدة عالية على الودائع يكون سعر هذه العملة محرّر أي يتعرّض للتغيّر حسب العرض والطلب. لكن ما قامت به السياسات المالية في لبنان هو تثبيت سعر الليرة اللبنانية مقابل الدولار من قبل المصرف المركزي ومن ثم إصدار سندات بالعملة الوطنية فاستحوذ عليها السياسيون الحاكمون واستفادوا بتسجيل أرباح هائلة من الفوائد العالية بينما هم مرتاحون ومتأكدون من تثبيت سعر صرف الليرة. ولو حدث هذا الأمر في اي بلد متمدن لحوكم المستفيدون.
توجهت السياسات المالية هذه لِخدمة المشاريع التنفيذية والاستهلاكية مع إهمال تام للقطاعات الإنتاجية، وكانت تقوم هذه السياسات على الاستدانة دون الالتفات لِتداعياتها السلبية على الاقتصاد الوطني، ومن أهم اخطائها هي طبع الاوراق النقدية بِغياب اقتصاد انتاجي، فأدّت هذه السياسات الفاشلة إلى تخزين العملات الاجنبية على حساب العملة الوطنية.

لقد مرّت الليرة اللبنانية بِمراحل متعددة صعودًا وهبوطًا، ففي العام 1992 هبطت الليرة الى مستوى 3000 ليرة للدولار الواحد، وظلّ سعر الصرف يتلاعب إلى أن تم تثبيته عند معدّل الـ 1507 ليرة للدولار الواحد في نهاية ١٩٩٢. ثمّ عُين رياض سلامة حاكم لمصرف لبنان في العام 1993.
كانت تكلفة تثبيت سعر الصرف باهظة على الاقتصاد الوطني، حيث افرغت البلاد من المبادرات الإنتاجية وفرص العمل.
ولا ننسى الظروف السياسية التي أرادوها أن تخدم مصالحهم فغيّبوا قطع الحساب لمدّة سنين فكان آخر قطع حساب في العام 2003. كما توقّفوا عن تقديم موازنات الدولة من العام 2006 حتى العام 2016 واعتمدوا الإنفاق على القاعدة الاثني عشرية، هذا ما انعكس سلبًا أيضاً على حياة المواطنين وعلى الخدمات التي تقدمها لهم حكوماتهم، إلى أن بدأ التيار الوطني الحر بالعمل، من خلال وجود النائب ابراهيم كنعان في لجنة المال والموازنة، لإقرار أوّل موازنة عام 2017 وذلك بعد غيابِ طال 11 عاماً.

مرّ لبنان بأوقات صعبة من الاحتلال السوري مرورا بالعدوان الاسرائيلي عام 2006 مما ادى الى زيادة الدين العام متاثرًا بمؤتمرات باريس ١-٢-٣ حيث تعهد ووعد المجتمع الدولي بتقديم أموال على شكل مساعدات وقروض، مما رسّخ عند السياسيين فكرة تمويل الدين بدين آخر تحت شعار إعادة الاعمار التي سيطرت عليها شركة “سوليدير” وحولّت معظم بيروت من منطقة للجميع الى منطقة للطبقة الميسورة فالدولة اللبنانية ومن خلال الهيئة العليا للاغاثة ساهمت بمبلغ 374 مليون دولار في اعادة اعمار من دون المساعدات التي وصلت للبنان،
كما و ان الأموال صرفت إلى إعادة تأهيل البنى التحتية هذا ما ساهم بإرتفاع المديونية العامة الى 52.6 مليار دولار في العام 2010 بحسب جمعية المصارف في لبنان.

وعود وعود ثم وعود … لم تكن إلا أقوال من دون أفعال، لقد عيّشوا الشعب على أكاذيبهم وضلّلوا الرأي العام برمي مسؤولياتهم على غيرهم بينما هم من أوصلنا إلى هذه النتائج الإقتصادية الكارثية. في كل مرّة يشعر فيها المواطن بأمل بالتغيير تتأهب قوى الـ “Mafia State” وتدافع عن مصالحها الفاسدة.
بإختصار هم لا يريدون التغيير ولا يسمحون لأحد بالتغيير.

إن مرحلة 1992-2010 هي مرحلة الغموض والفساد التي يدفع ثمنها لبنان اليوم، والمفاجئ انّ أمراء الحرب والمصارف ازدادوا وقاحة في السنين المتتالية وازدادت معهم الأمور سوءاً،
همّهم تسجيل أرقام ربح خاصة بهم وأرقام قياسية سلبية جديدة على الخزينة فتزامن ذلك أيضاً مع دخول اللاجئين السوريين لبنان سنة 2011 وما تكبّدته الدولة من مصاريف عليهم وبسببهم،
وهذه دراسة خاصة سأعرضها لكم في مقال يُنشر لاحقاً.